فصل: فَصْلٌ: تَابَ الْقَاتِلُ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ فَقُتِلَ قِصَاصًا هَلْ يَبْقَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمَقْتُولِ حَقٌّ؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: تَابَ الْقَاتِلُ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ فَقُتِلَ قِصَاصًا هَلْ يَبْقَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمَقْتُولِ حَقٌّ؟

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَابَ الْقَاتِلُ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ فَقُتِلَ قِصَاصًا، هَلْ يَبْقَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمَقْتُولِ حَقٌّ؟.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَدُّهُ، وَالْحُدُودُ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا، وَقَدِ اسْتَوْفَى وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ حَقَّ مَوْرُوثِهِمْ، وَهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَاهُ بِنَفْسِهِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الرَّجُلِ حَقَّهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ وَوَكِيلِهِ.
يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ أَحَدُ الْجِنَايَتَيْنِ، فَإِذَا اسْتُوْفِيَتْ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى طَرَفِهِ فَاسْتَقَادَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَقْتُولُ قَدْ ظُلِمَ وَفَاتَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَلَمْ يَسْتَدْرِكْ ظُلَامَتَهُ، وَالْوَارِثُ إِنَّمَا أَدْرَكَ ثَأْرَ نَفْسِهِ وَشِفَاءَ غَيْظِهِ، وَأَيُّ مَنْفَعَةٍ حَصَلَتْ لِلْمَقْتُولِ بِذَلِكَ؟ وَأَيُّ ظُلَامَةٍ اسْتَوْفَاهَا مِنَ الْقَاتِلِ؟.
قَالُوا: فَالْحُقُوقُ فِي الْقَتْلِ ثَلَاثَةٌ: حَقٌّ لِلَّهِ، وَحَقٌّ لِلْمَقْتُولِ، وَحَقٌّ لِلْوَارِثِ، فَحَقُّ اللَّهِ لَا يَزُولُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ، وَحَقُّ الْوَارِثِ قَدِ اسْتَوْفَاهُ بِالْقَتْلِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بَيْنَ الْقِصَاصِ، وَالْعَفْوِ مَجَّانًا، أَوْ إِلَى مَالٍ، فَلَوْ أَحَلَّهُ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمَقْتُولِ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إِذَا اقْتَصَّ مِنْهُ; لِأَنَّهُ أَحَدُ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَقْتُولِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا دُونَ الْآخَرَيْنِ؟.
قَالُوا: وَلَوْ قَالَ الْقَتِيلُ: لَا تَقْتُلُوهُ لِأُطَالِبَهُ بِحَقِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَتَلُوهُ، أَكَانَ يَسْقُطُ حَقُّهُ أَوْ لَمْ يُسْقِطْهُ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: يَسْقُطُ، فَبَاطِلٌ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِهِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: لَا يَسْقُطُ، فَكَيْفَ تُسْقِطُونَهُ إِذَا اقْتُصَّ مِنْهُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِرِضَا الْمَقْتُولِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ؟.
وَهَذِهِ حُجَجٌ كَمَا تَرَى فِي الْقُوَّةِ لَا تَنْدَفِعُ إِلَّا بِأَقْوَى مِنْهَا أَوْ بِأَمْثَالِهَا.
فَالصَّوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا تَابَ الْقَاتِلُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ، وَسَلَّمَ نَفْسَهُ طَوْعًا إِلَى الْوَارِثِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ حَقَّ مَوْرُوثِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَقَّانِ، وَبَقِيَ حَقُّ الْمَوْرُوثِ لَا يُضَيِّعُهُ اللَّهُ، وَيَجْعَلُ مِنْ تَمَامِ مَغْفِرَتِهِ لِلْقَاتِلِ تَعْوِيضَ الْمَقْتُولِ; لِأَنَّ مُصِيبَتَهُ لَمْ تَنْجَبِرْ بِقَتْلِ قَاتِلِهِ، وَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا، فَيُعَوِّضُ هَذَا عَنْ مَظْلَمَتِهِ، وَلَا يُعَاقَبُ هَذَا لِكَمَالِ تَوْبَتِهِ، وَصَارَ هَذَا كَالْكَافِرِ الْمُحَارِبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إِذَا قَتَلَ مُسْلِمًا فِي الصَّفِّ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُعَوِّضُ هَذَا الشَّهِيدَ الْمَقْتُولَ، وَيَغْفِرُ لِلْكَافِرِ بِإِسْلَامِهِ وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ ظُلْمًا فَإِنَّ هَدْمَ التَّوْبَةِ لِمَا قَبْلَهَا كَهَدْمِ الْإِسْلَامِ لِمَا قَبْلَهُ.
وَعَلَى هَذَا إِذَا سَلَّمَ نَفْسَهُ وَانْقَادَ فَعَفَا عَنْهُ الْوَلِيُّ وَتَابَ الْقَاتِلُ تَوْبَةً نَصُوحًا فَاللَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ وَيُعَوِّضُ الْمَقْتُولَ.
فَهَذَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ نَظَرُ الْعَالَمِ وَاجْتِهَادُهُ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلَّهِ {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}.

.فَصْلٌ: فِي مَشَاهِدِ الْخَلْقِ فِي الْمَعْصِيَةِ:

وَهِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَشْهَدًا هِيَ مَشَاهِدُ الْخَلْقِ فِي الْمَعْصِيَةِ:
1- مَشْهَدُ الْحَيَوَانِيَّةِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ.
2- وَمَشْهَدُ اقْتِضَاءِ رُسُومِ الطَّبِيعَةِ وَلَوَازِمِ الْخِلْقَةِ.
3- وَمَشْهَدُ الْجَبْرِ.
4- وَمَشْهَدُ الْقَدَرِ.
5- وَمَشْهَدُ الْحِكْمَةِ.
6- وَمَشْهَدُ التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ.
7- وَمَشْهَدُ التَّوْحِيدِ.
8- وَمَشْهَدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
9- وَمَشْهَدُ الْإِيمَانِ وَتَعَدُّدِ شَوَاهِدِهِ.
10- وَمَشْهَدُ الرَّحْمَةِ.
11- وَمَشْهَدُ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ.
12- وَمَشْهَدُ الذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ.
13- وَمَشْهَدُ الْمَحَبَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ.
فَالْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ لِلْمُنْحَرِفِينَ، وَالثَّمَانِيَةُ الْبَوَاقِي لِأَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَعْلَاهَا الْمَشْهَدُ الْعَاشِرُ.
وَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ أَجَلِّ فُصُولِ الْكِتَابِ وَأَنْفَعِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ تُثْنَى عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ، وَلَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِهِ فِي كِتَابٍ سِوَاهُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى سَفَرُ الْهِجْرَتَيْنِ فِي طَرِيقِ السَّعَادَتَيْنِ.

.فَصْلٌ: الْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ: مَشْهَدُ الْحَيَوَانِيَّةِ:

فَأَمَّا مَشْهَدُ الْحَيَوَانِيَّةِ مِنْ مَشَاهِدِ الْخَلْقِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَمَشْهَدُ الْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَيَوَانِ إِلَّا فِي اعْتِدَالِ الْقَامَةِ وَنُطْقِ اللِّسَانِ، لَيْسَ هَمُّهُمْ إِلَّا مُجَرَّدَ نَيْلِ الشَّهْوَةِ بِأَيِّ طَرِيقٍ أَفْضَتْ إِلَيْهَا، فَهَؤُلَاءِ نُفُوسُهُمْ نُفُوسٌ حَيَوَانِيَّةٌ لَمْ تَتَرَقَّ عَنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَضْلًا عَنْ دَرَجَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَهَؤُلَاءِ حَالُهُمْ أَخَسُّ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ مُتَفَاوِتُونَ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي هُمْ عَلَى أَخْلَاقِهَا وَطِبَاعِهَا.
فَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ كَلْبِيَّةٌ، لَوْ صَادَفَ جِيفَةً تُشْبِعُ أَلْفَ كَلْبٍ لَوَقَعَ عَلَيْهَا وَحَمَاهَا مِنْ سَائِرِ الْكِلَابِ وَنَبَحَ كُلَّ كَلْبٍ يَدْنُو مِنْهَا، فَلَا تَقْرَبُهَا الْكِلَابُ إِلَّا عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ وَغَلَبَةٍ، وَلَا يَسْمَحُ لِكَلْبٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَهَمُّهُ شِبَعُ بَطْنِهِ مِنْ أَيْ طَعَامٍ اتَّفَقَ: مَيْتَةٍ أَوْ مُذَكًّى، خَبِيثٍ أَوْ طَيِّبٍ، وَلَا يَسْتَحِي مِنْ قَبِيحٍ، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، إِنْ أَطْعَمْتَهُ بَصْبَصَ بِذَنَبِهِ وَدَارَ حَوْلَكَ، وَإِنْ مَنَعْتَهُ هَرَّكَ وَنَبَحَكَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ حِمَارِيَّةٌ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لِلْكَدِّ وَالْعَلَفِ، كُلَّمَا زِيدَ فِي عَلَفِهِ زِيدَ فِي كَدِّهِ، أَبْكَمُ الْحَيَوَانِ وَأَقَلُّهُ بَصِيرَةً، وَلِهَذَا مَثَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ حَمْلِهِ كِتَابَهُ فَلَمْ يَحْمِلْهُ مَعْرِفَةً وَلَا فِقْهًا وَلَا عَمَلًا، وَمَثَّلَ بِالْكَلْبِ عَالِمَ السُّوءِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا وَأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعْ هَوَاهُ، وَفِي هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ أَسْرَارٌ عَظِيمَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ سَبُعِيَّةٌ غَضَبِيَّةٌ هِمَّتُهُ الْعُدْوَانُ عَلَى النَّاسِ وَقَهْرُهُمْ بِمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ قُدْرَتُهُ، طَبِيعَتُهُ تَتَقَاضَى ذَلِكَ كَتَقَاضِي طَبِيعَةِ السَّبُعِ لِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ فَأْرِيَّةٌ فَاسِقٌ بِطَبْعِهِ مُفْسِدٌ لِمَا جَاوَرَهُ، تَسْبِيحُهُ بِلِسَانِ الْحَالِ: سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَهُ لِلْفَسَادِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ عَلَى نُفُوسِ ذَوَاتِ السُّمُومِ وَالْحُمَاتِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الَّذِي يُؤْذِي بِعَيْنِهِ فَيُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ، وَالْعَيْنُ وَحْدَهَا لَمْ تَفْعَلْ شَيْئًا وَإِنَّمَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ السُّمِّيَّةُ تَكَيَّفَتْ بِكَيْفِيَّةٍ غَضَبِيَّةٍ مَعَ شِدَّةِ حَسَدٍ وَإِعْجَابٍ، وَقَابَلَتِ الْمَعِينَ عَلَى غِرَّةِ مِنْهُ وَغَفْلَةٍ وَهُوَ أَعْزَلُ مِنْ سِلَاحِهِ فَلَدَغَتْهُ كَالْحَيَّةِ الَّتِي تَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعٍ مَكْشُوفٍ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ فَتَنْهَشُهُ، فَإِمَّا عَطَبٌ وَإِمَّا أَذًى، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ أَذَى الْعَائِنِ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ بَلْ إِذَا وُصِفَ لَهُ الشَّيْءُ الْغَائِبُ عَنْهُ وَصَلَ إِلَيْهِ أَذَاهُ وَالذَّنْبُ لِجَهْلِ الْمَعِينِ وَغَفْلَتِهِ وَغِرَّتِهِ عَنْ حَمْلِ سِلَاحِهِ كُلَّ وَقْتٍ، فَالْعَائِنُ لَا يُؤَثِّرُ فِي شَاكِي السِّلَاحِ كَالْحَيَّةِ إِذَا قَابَلَتْ دِرْعًا سَابِغًا عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ لَيْسَ فِيهِ مَوْضِعٌ مَكْشُوفٌ، فَحَقٌّ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَ نَفْسِهِ وَحِمَايَتَهَا أَنْ لَا يَزَالَ مُتَدَرِّعًا مُتَحَصِّنًا لَابِسًا أَدَاةَ الْحَرْبِ مُوَاظِبًا عَلَى أَوْرَادِ التَّعَوُّذَاتِ وَالتَّحْصِينَاتِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ وَالَّتِي فِي السُّنَّةِ.
وَإِذَا عُرِفَ الرَّجُلُ بِالْأَذَى بِالْعَيْنِ سَاغَ- بَلْ وَجَبَ- حَبْسُهُ وَإِفْرَادُهُ عَنِ النَّاسِ وَيُطْعَمُ وَيُسْقَى حَتَّى يَمُوتَ، ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ، وَلَوْ قِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ تُقِيدُونَ مِنْهُ إِذَا قَتَلَ بِعَيْنِهِ.
قِيلَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ بَلْ غَلَبَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ تَعَمَّدَ وَقَدَرَ عَلَى رَدِّهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَقْتُلُ بِهِ سَاغَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ بِهِ، فَيُعِينُهُ إِنْ شَاءَ كَمَا عَانَ هُوَ الْمَقْتُولَ، وَأَمَّا قَتْلُهُ بِالسَّيْفِ قِصَاصًا فَلَا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا وَلَا هُوَ مُمَاثِلٌ لِجِنَايَتِهِ.
وَسَأَلْتُ شَيْخَنَا أَبَا الْعَبَّاسِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنِ الْقَتْلِ بِالْحَالِ هَلْ يُوجِبُ الْقِصَاصَ؟.
فَقَالَ: لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ بِالْحَالِ كَمَا قَتَلَ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَتْلِ بِهَذَا وَبَيْنَ الْقَتْلِ بِالسِّحْرِ حَيْثُ تُوجِبُونَ الْقِصَاصَ بِهِ بِالسَّيْفِ؟.
قُلْنَا: الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السِّحْرَ الَّذِي يُقْتَلُ بِهِ هُوَ السِّحْرُ الَّذِي يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا كَثِيرٌ فِي السِّحْرِ، وَفِيهِ مَقَالَاتُ أَبْوَابٍ مَعْرُوفَةٍ لِلْقَتْلِ عِنْدَ أَرْبَابِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ لِكَوْنِهِ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِاللِّوَاطِ وَتَجْرِيعِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالسَّيْفِ.
وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مَا هِيَ عَلَى نُفُوسِ الْحَيَوَانَاتِ الْعَادِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا هُوَ تَأْوِيلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}.
وَعَلَى هَذَا الشَّبَهِ اعْتِمَادُ أَهْلِ التَّعْبِيرِ لِلرُّؤْيَا فِي رُؤْيَةِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الْمَنَامِ عِنْدِ الْإِنْسَانِ وَفِي دَارِهِ، أَوْ أَنَّهَا تُحَارِبُهُ، وَهُوَ كَمَا اعْتَمَدُوهُ، وَقَدْ وَقَعَ لَنَا وَلِغَيْرِنَا مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ فَكَانَ تَأْوِيلُهَا مُطَابِقًا لِأَقْوَامٍ عَلَى طِبَاعِ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ، وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ بَقَرًا تُنْحَرُ فَكَانَ مَنْ أُصِيبُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَحْرِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْبَقَرَ أَنْفَعُ الْحَيَوَانَاتِ لِلْأَرْضِ وَبِهَا صَلَاحُهَا وَفَلَاحُهَا مَعَ مَا فِيهَا مِنَ السَّكِينَةِ وَالْمَنَافِعِ وَالذِّلِّ- بِكَسْرِ الذَّالِ- فَإِنَّهَا ذَلُولٌ مُذَلَّلَةٌ مُنْقَادَةٌ غَيْرُ أَبِيَّةٍ، وَالْجَوَامِيسُ كِبَارُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ، رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَهُ ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ فَكَانَ طَعْنَ أَبِي لُؤْلُؤَةَ لَهُ، وَالدِّيكُ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ شِرِّيرٌ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَبْعُهُ طَبْعُ خِنْزِيرٍ يَمُرُّ بِالطَّيِّبَاتِ فَلَا يَلْوِي عَلَيْهَا، فَإِذَا قَامَ الْإِنْسَانُ عَنْ رَجِيعِهِ قَمَّهُ، وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْمَعُ مِنْكَ وَيَرَى مِنَ الْمَحَاسِنِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ الْمَسَاوِئِ فَلَا يَحْفَظُهَا وَلَا يَنْقُلُهَا وَلَا تُنَاسِبُهُ، فَإِذَا رَأَى سَقْطَةً أَوْ كَلِمَةً عَوْرَاءَ وَجَدَ بُغْيَتَهُ وَمَا يُنَاسِبُهَا فَجَعَلَهَا فَاكِهَتَهُ وَنُقْلَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى طَبِيعَةِ الطَّاوُسِ لَيْسَ لَهُ إِلَّا التَّطَوُّسُ وَالتَّزَيُّنُ بِالرِّيشِ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى طَبِيعَةِ الْجَمَلِ أَحْقَدِ الْحَيَوَانِ, وَأَغْلَظِهِ كَبِدًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى طَبِيعَةِ الدُّبِّ أَبْكَمُ خَبِيثٌ وَعَلَى طَبِيعَةِ الْقِرْدِ.
وَأَحْمَدُ طَبَائِعِ الْحَيَوَانَاتِ طَبَائِعُ الْخَيْلِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْحَيَوَانَاتِ نُفُوسًا، وَأَكْرَمُهَا طَبْعًا وَكَذَلِكَ الْغَنَمُ، وَكُلُّ مَنْ أَلِفَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ اكْتَسَبَ مِنْ طَبْعِهِ وَخُلُقِهِ، فَإِنْ تَغَذَّى بِلَحْمِهِ كَانَ الشَّبَهُ أَقْوَى فَإِنَّ الْغَاذِيَ شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذَى.
وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ أَكْلَ لُحُومِ السِّبَاعِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ لِمَا تُورِثُ آكِلَهَا مِنْ شِبْهِ نُفُوسِهَا بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْمَشْهَدِ لَيْسَ لَهُمْ شُهُودٌ سِوَى مِثْلِ نُفُوسِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ لَا يَعْرِفُونَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْبَتَّةَ.

.فَصْلٌ: الْمَشْهَدُ الثَّانِي: مَشْهَدُ رُسُومِ الطَّبِيعَةِ وَلَوَازِمِ الْخِلْقَةِ:

كَمَشْهَدِ زَنَادِقَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ الْخِلْقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَنَّ تَرْكِيبَ الْإِنْسَانِ مِنَ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ وَامْتِزَاجِهَا وَاخْتِلَاطِهَا كَمَا يَقْتَضِي بَغْيَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَخُرُوجَهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ- بِحَسَبِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَخْلَاطِ- فَكَذَلِكَ تَرْكِيبُهُ مِنَ الْبَدَنِ وَالنَّفْسِ وَالطَّبِيعَةِ وَالْأَخْلَاطِ الْحَيَوَانِيَّةِ تَتَقَاضَاهُ آثَارُ هَذِهِ الْخِلْقَةِ وَرُسُومُ تِلْكَ الطَّبِيعَةِ، وَلَا تَنْقَهِرُ إِلَّا بِقَاهِرٍ إِمَّا مِنْ نَفْسِهِ وَإِمَّا مِنْ خَارِجٍ عَنْهُ، وَأَكْثَرُ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ لَيْسَ لَهُ قَاهِرٌ مِنْ نَفْسِهِ فَاحْتِيَاجُهُ إِلَى قَاهِرٍ فَوْقَهُ يُدْخِلُهُ تَحْتَ سِيَاسَةٍ وَإِيَالَةٍ يَنْتَظِمُ بِهَا أَمْرُهُ ضَرُورَةً كَحَاجَتِهِ إِلَى مَصَالِحِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ.
وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْعَاقِلَ مَتَى كَانَ لَهُ وَازِعٌ مِنْ نَفْسِهِ قَاهِرٌ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَمْرِ غَيْرِهِ وَنَهْيِهِ وَضَبْطِهِ.
فَمَشْهَدُ هَؤُلَاءِ مِنْ حَرَكَاتِ النَّفْسِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْجِنَايَاتِ كَمَشْهَدِهِمْ مِنْ حَرَكَاتِ الطَّبِيعَةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّغَيُّرَاتِ وَلَيْسَ لَهُمْ مَشْهَدٌ وَرَاءَ ذَلِكَ.

.فَصْلٌ: الْمَشْهَدُ الثَّالِثُ: مَشْهَدُ أَصْحَابِ الْجَبْرِ:

وَهُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ مَجْبُورُونَ مِنْ مَشَاهِدِ الْخَلْقِ فِي الْمَعْصِيَةِ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِمْ، بَلْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّهَا أَفْعَالُهُمُ الْبَتَّةَ.
يَقُولُونَ: إِنَّ أَحَدَهُمْ غَيْرُ فَاعِلٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا قَادِرٍ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ فِيهِ غَيْرُهُ وَالْمُحَرِّكَ لَهُ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ آلَةٌ مَحْضَةٌ، وَحَرَكَاتُهُ بِمَنْزِلَةِ هُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ.
وَهَؤُلَاءِ إِذَا أَنْكَرْتَ عَلَيْهِمْ أَفْعَالَهُمُ احْتَجُّوا بِالْقَدَرِ، وَحَمَلُوا ذُنُوبَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَغْلُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَرَوْا أَفْعَالَهُمْ كُلَّهَا طَاعَاتٍ، خَيْرَهَا وَشَرَّهَا، لِمُوَافَقَتِهَا لِلْمَشِيئَةِ وَالْقَدَرِ.
وَيَقُولُونَ: كَمَا أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ طَاعَةٌ، فَمُوَافَقَةُ الْمَشِيئَةِ طَاعَةٌ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِخْوَانِهِمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَفْعَالِهِمْ دَلِيلًا عَلَى أَمْرِهِ بِهَا وَرِضَاهُ، وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ، وَأَشَدُّ مِنْهُمْ عَدَاوَةً لِلَّهِ، وَمُنَاقَضَةً لِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَدِينِهِ، حَتَّى إِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَعْتَذِرُ عَنْ إِبْلِيسَ وَيَتَوَجَّعُ لَهُ وَيُقِيمُ عُذْرَهُ بِجُهْدِهِ، وَيَنْسِبُ رَبَّهُ تَعَالَى إِلَى ظُلْمِهِ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْمَقَالِ، وَيَقُولُ: مَا ذَنْبُهُ وَقَدْ صَانَ وَجْهَهُ عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِ خَالِقِهِ؟ وَقَدْ وَافَقَ حُكْمَهُ وَمَشِيئَتَهُ فِيهِ وَإِرَادَتَهُ مِنْهُ؟ ثُمَّ كَيْفَ يُمْكِنُهُ السُّجُودُ وَهُوَ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْهُ وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؟ وَهَلْ كَانَ فِي تَرْكِ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ إِلَّا مُحْسِنًا؟ وَلَكِنْ:
إِذَا كَانَ الْمُحِبُّ قَلِيلَ حَظٍّ ** فَمَا حَسَنَاتُهُ إِلَّا ذُنُوبُ

وَهَؤُلَاءِ أَعْدَاءُ اللَّهِ حَقًّا، وَأَوْلِيَاءُ إِبْلِيسَ وَأَحِبَّاؤُهُ وَإِخْوَانُهُ، وَإِذَا نَاحَ مِنْهُمْ نَائِحٌ عَلَى إِبْلِيسَ، رَأَيْتَ مِنَ الْبُكَاءِ وَالْحَنِينِ أَمْرًا عَجَبًا، وَرَأَيْتَ مِنْ ظُلْمِهِمُ الْأَقْدَارَ وَاتِّهَامِهِمُ الْجَبَّارِ مَا يَبْدُو عَلَى فَلَتَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَصَفَحَاتِ وُجُوهِهِمْ، وَتَسْمَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ مِنَ التَّظَلُّمِ وَالتَّوَجُّعِ مَا تَسْمَعُهُ مِنَ الْخَصْمِ الْمَغْلُوبِ الْعَاجِزِ عَنْ خَصْمِهِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي تَائِيَّتِهِ:
وَيُدْعَى خُصُومُ اللَّهِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ ** إِلَى النَّارِ طُرًّا فِرْقَةُ الْقَدَرِيَّةِ

.فَصْلٌ: الْمَشْهَدُ الرَّابِعُ: مَشْهَدُ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ:

يَشْهَدُونَ أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ وَالذُّنُوبَ هُمُ الَّذِينَ أَحْدَثُوهَا، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِمَشِيئَتِهِمْ دُونَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكْتُبْهُ، وَلَا شَاءَ، وَلَا خَلَقَ أَفْعَالَهُمْ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَهْدِيَ أَحَدًا وَلَا يُضِلَّهُ إِلَّا بِمُجَرَّدِ الْبَيَانِ، لَا أَنَّهُ يُلْهِمُهُ الْهُدَى وَالضَّلَالَ، وَالْفُجُورَ وَالتَّقْوَى، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ.
وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِ اللَّهِ مَا لَا يَشَاؤُهُ، وَأَنَّهُ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ، وَأَنَّ الْعِبَادَ خَالِقُونَ لِأَفْعَالِهِمْ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ.
فَالْمَعَاصِي وَالذُّنُوبُ خَلْقُهُمْ، وَمُوجَبُ مَشِيئَتِهِمْ، لَا أَنَّهَا خَلْقُ اللَّهِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ، وَهُمْ لِذَلِكَ مَبْخُوسُوا الْحَظِّ جِدًّا مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاعْتِصَامِ بِهِ، وَسُؤَالِهِ أَنْ يَهْدِيَهُمْ وَأَنْ يُثَبِّتَ قُلُوبَهُمْ، وَأَنْ لَا يُزِيغَهَا، وَأَنْ يُوَفِّقَهُمْ لِمَرْضَاتِهِ، وَيُجَنِّبَهُمْ مَعْصِيَتَهُ، إِذْ هَذَا كُلُّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ وَعَيْنُ أَفْعَالِهِمْ، لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَشِيئَةِ الرَّبِّ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَالشَّيْطَانُ قَدْ رَضِيَ مِنْهُمْ بِهَذَا الْقَدْرِ، فَلَا يَؤُزُّهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي ذَلِكَ الْأَزَّ، وَلَا يُزْعِجُهُمْ إِلَيْهَا ذَلِكَ الْإِزْعَاجَ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضَانِ مُهِمَّانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقِرَّ فِي قُلُوبِهِمْ صِحَّةَ هَذَا الْمَشْهَدِ وَهَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَأَنَّكُمْ تَارِكُونَ الذُّنُوبَ وَالْكَبَائِرَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا أَهْلُ السُّنَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مُفَوَّضٌ إِلَيْكُمْ، وَاقِعٌ بِكُمْ، وَأَنَّكُمُ الْعَاصِمُونَ لِأَنْفُسِكُمْ، الْمَانِعُونَ لَهَا مِنَ الْمَعْصِيَةِ.
الْغَرَضُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصْطَادُ عَلَى أَيْدِيهِمُ الْجُهَّالَ، فَإِذَا رَأَوْهُمْ أَهْلَ عِبَادَةٍ وَزَهَادَةٍ وَتَوَرُّعٍ عَنِ الْمَعَاصِي وَتَعْظِيمٍ لَهَا، قَالُوا: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْحَقِّ- وَالْبِدْعَةُ آثَرُ عِنْدَهُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ- فَإِذَا ظَفِرَ بِهَا مِنْهُمْ، وَاصْطَادَ الْجُهَّالَ عَلَى أَيْدِيهِمْ، كَيْفَ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ؟ بَلْ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا وَيُقَبِّحُهَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، وَلَا يَكْشِفُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ إِلَّا أَرْبَابُ الْبَصَائِرِ.

.فَصْلٌ: الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَحَدُ مَشَاهِدِ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ: مَشْهَدُ الْحِكْمَةِ:

مِنْ مَشَاهِدِ الْخَلْقِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ مَشْهَدُ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي تَقْدِيرِهِ عَلَى عَبْدِهِ مَا يُبْغِضُهُ سُبْحَانَهُ وَيَكْرَهُهُ، وَيَلُومُ وَيُعَاقِبُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَعَصَمَهُ مِنْهُ، وَلَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُعْصَى قَسْرًا، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
وَهَؤُلَاءِ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا عَبَثًا وَلَا سُدًى، وَأَنَّهُ لَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي كُلِّ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَحِكْمَةٍ بَاهِرَةٍ تَعْجِزُ الْعُقُولُ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِكُنْهِهَا، وَتَكِلُّ الْأَلْسُنُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهَا.
فَمَصْدَرُ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ لِمَا يُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ اسْمُهُ الْحَكِيمُ الَّذِي بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ الْأَلْبَابَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ لَمَّا قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فَأَجَابَهُمْ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي ظُهُورِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ وَالْجَرَائِمِ وَتَرَتُّبِ آثَارِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْحِكَمِ، وَأَنْوَاعِ التَّعَرُّفَاتِ إِلَى خَلْقِهِ، وَتَنْوِيعِ آيَاتِهِ، وَدَلَائِلِ رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَإِلَهِيَّتِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَعِزَّتِهِ، وَتَمَامِ مُلْكِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ- مَا يَشْهَدُهُ أُولُو الْبَصَائِرِ عِيَانًا بِبَصَائِرِ قُلُوبِهِمْ، فَيقولون: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} إِنْ هِيَ إِلَّا حِكْمَتُكَ الْبَاهِرَةُ، وَآيَاتُكَ الظَّاهِرَةُ.
وَلِلَّهِ فِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ ** وَتَسْكِينَةٍ أَبَدًا شَاهِدُ

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ** تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ

فَكَمْ مِنْ آيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بَيِّنَةٍ، دَالَّةٍ عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ، وَعَلَى أَنَّ لِقَاءَهُ حَقٌّ، كَانَ سَبَبُهَا مَعَاصِيَ بَنِي آدَمَ وَذُنُوبَهُمْ، كَآيَتِهِ فِي إِغْرَاقِ قَوْمِ نُوحٍ، وَعُلُوِّ الْمَاءِ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ حَتَّى أَغْرَقَ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَنَجَّى أَوْلِيَاءَهُ، وَأَهْلَ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَكَمْ فِي ذَلِكَ مِنْ آيَةٍ وَعِبْرَةٍ، وَدَلَالَةٍ بَاقِيَةٍ عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ؟! وَكَذَلِكَ إِهْلَاكُ قَوْمِ عَادٍ وَثَمُودَ.
وَكَمْ لَهُ مِنْ آيَةٍ فِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنْ حِينِ بَعَثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهِمْ- بَلْ قَبْلَ مَبْعَثِهِ- إِلَى حَيْثُ إِغْرَاقُهُمْ، لَوْلَا مَعَاصِيهِمْ وَكُفْرُهُمْ لَمْ تَظْهَرْ تِلْكَ الْآيَاتُ وَالْعَجَائِبُ، وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ فَإِنِّي سَأُقَسِّي قَلْبَهُ، وَأَمْنَعُهُ عَنِ الْإِيمَانِ لِأُظْهِرَ آيَاتِي وَعَجَائِبِي بِمِصْرَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ سُبْحَانَهُ فَأَظْهَرَ مِنْ آيَاتِهِ وَعَجَائِبِهِ بِسَبَبِ ذُنُوبِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مَا أَظْهَرَ.
وَكَذَلِكَ إِظْهَارُهُ سُبْحَانَهُ مَا أَظْهَرَ مِنْ جَعْلِ النَّارِ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِ ذُنُوبِ قَوْمِهِ وَمَعَاصِيهِمْ، وَإِلْقَائِهِمْ لَهُ فِي النَّارِ، حَتَّى صَارَتْ تِلْكَ آيَةً، وَحَتَّى نَالَ إِبْرَاهِيمُ بِهَا مَا نَالَ مِنْ كَمَالِ الْخُلَّةِ.
وَكَذَلِكَ مَا حَصَلَ لِلرُّسُلِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالزُّلْفَى عِنْدَ اللَّهِ وَالْوَجَاهَةِ عِنْدَهُ، بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى قَوْمِهِمْ، وَعَلَى مُحَارَبَتِهِمْ لَهُمْ وَمُعَادَاتِهِمْ.
وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ اللَّهِ تَعَالَى الشُّهَدَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ وَالْأَصْفِيَاءَ مِنْ بَنِي آدَمَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى بَنِي آدَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالظُّلْمِ، وَمُجَاهَدَتِهِمْ فِي اللَّهِ، وَتَحَمُّلِهِمْ لِأَجْلِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ مَا هُوَ بِعَيْنِهِ وَعِلْمِهِ، وَاسْتِحْقَاقُهُمْ بِذَلِكَ رِفْعَةُ الدَّرَجَاتِ.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْحِكَمِ الَّتِي وُجِدَتْ بِسَبَبِ ظُهُورِ الْمَعَاصِي وَالْجَرَائِمِ، وَكَانَ مِنْ سَبَبِهَا تَقْدِيرُ مَا يَبْغَضُهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مَحْضَ الْحِكْمَةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ وَآثَرُ عِنْدَهُ مِنْ فَوْتِهِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمَعْصِيَةِ.
فَحُصُولُ هَذَا الْمَحْبُوبِ الْعَظِيمِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ ذَلِكَ الْمَبْغُوضِ الْمَسْخُوطِ، فَإِنَّ فَوَاتَهُ وَعَدَمَهُ- وَإِنْ كَانَ مَحْبُوبًا لَهُ- لَكِنَّ حُصُولَ هَذَا الْمَحْبُوبِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَحْصُلُ بِدُونِ وُجُودِ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ الْمَسْخُوطِ، وَكَمَالُ حِكْمَتِهِ تَقْتَضِي حُصُولَ أَحَبِّ الْأَمْرَيْنِ إِلَيْهِ بِفَوَاتِ أَدْنَى الْمَحْبُوبِينِ، وَأَنْ لَا يُعَطَّلَ هَذَا الْأَحَبُّ بِتَعْطِيلِ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ، وَفَرْضُ الذِّهْنِ وُجُودَ هَذَا بِدُونِ هَذَا، كَفَرْضِهِ وُجُودَ الْمُسَبَّبَاتِ بِدُونِ أَسْبَابِهَا، وَالْمَلْزُومَاتِ بِدُونِ لَوَازِمِهَا مِمَّا تَمْنَعُهُ حِكْمَةُ اللَّهِ، وَكَمَالُ قُدْرَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ.
وَيَكْفِي مِنْ هَذَا مِثَالٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْلَا الْمَعْصِيَةُ مِنْ أَبِي الْبَشَرِ مِثَالٌ لِحِكْمَةِ اللَّهِ- بِأَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ- لَمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَا تَرَتَّبَ مِنْ وُجُودِ هَذِهِ الْمَحْبُوبَاتِ الْعِظَامِ لِلرَّبِّ تَعَالَى، مِنَ امْتِحَانِ خَلْقِهِ وَتَكْلِيفِهِمْ، وَإِرْسَالِ رُسُلِهِ، وَإِنْزَالِ كُتُبِهِ، وَإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَعَجَائِبِهِ وَتَنْوِيعِهَا وَتَصْرِيفِهَا، وَإِكْرَامِ أَوْلِيَائِهِ، وَإِهَانَةِ أَعْدَائِهِ، وَظُهُورِ عَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، وَعِزَّتِهِ وَانْتِقَامِهِ، وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَصَفْحِهِ وَحِلْمِهِ، وَظُهُورِ مَنْ يَعْبُدُهُ وَيُحِبُّهُ وَيَقُومُ بِمَرَاضِيهِ بَيْنَ أَعْدَائِهِ فِي دَارِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ.
فَلَوْ قَدَّرَ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَأْكُلْ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَلَمْ يُخْرَجْ مِنَ الْجَنَّةِ هُوَ وَأَوْلَادُهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ، وَلَا ظَهَرَ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ مَا كَانَ كَامِنًا فِي قَلْبِ إِبْلِيسَ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَلَا تَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ خَبِيثُ الْخَلْقِ مِنْ طَيِّبِهِمْ، وَلَمْ تَتِمَّ الْمَمْلَكَةُ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِكْرَامٌ وَثَوَابٌ، وَعُقُوبَةٌ وَإِهَانَةٌ، وَدَارُ سَعَادَةٍ وَفَضْلٍ، وَدَارُ شَقَاوَةٍ وَعَدْلٍ.
وَكَمْ فِي تَسْلِيطِ أَوْلِيَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَتَسْلِيطِ أَعْدَائِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَابْتِلَاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ مِنْ حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَنِعْمَةٍ سَابِغَةٍ!.
وَكَمْ فِيهَا مِنْ حُصُولِ مَحْبُوبٍ لِلرَّبِّ، وَحَمْدٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَخُضُوعٍ لَهُ وَتَذَلُّلٍ، وَتَعَبُّدٍ وَخَشْيَةٍ وَافْتِقَارٍ إِلَيْهِ، وَانْكِسَارٍ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِ، إِذْ هُمْ يُشَاهِدُونَهُمْ وَيُشَاهِدُونَ خِذْلَانَ اللَّهِ لَهُمْ، وَإِعْرَاضَهُ عَنْهُمْ، وَمَقْتَهُ لَهُمْ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَتَصَرُّفِهِ فِي مَمْلَكَتِهِ، فَأَوْلِيَاؤُهُ مِنْ خَشْيَةِ خِذْلَانِهِ خَاضِعُونَ مُشْفِقُونَ، عَلَى أَشَدِّ وَجَلِّ، وَأَعْظَمِ مَخَافَةٍ، وَأَتَمِّ انْكِسَارٍ.
فَإِذَا رَأَتِ الْمَلَائِكَةُ إِبْلِيسَ وَمَا جَرَى لَهُ، وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ وَضَعَتْ رُءُوسَهَا بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ خُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ، وَاسْتِكَانَةً لِعِزَّتِهِ، وَخَشْيَةً مِنْ إِبْعَادِهِ وَطَرْدِهِ، وَتَذَلُّلًّا لِهَيْبَتِهِ، وَافْتِقَارًا إِلَى عِصْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعَلِمَتْ بِذَلِكَ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ، وَتَخْصِيصَهُ لَهُمْ بِفَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ.
وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ، إِذَا شَاهَدُوا أَحْوَالَ أَعْدَائِهِ وَمَقْتَهُ لَهُمْ، وَغَضَبَهُ عَلَيْهِمْ، وَخِذْلَانَهُ لَهُمْ، ازْدَادُوا خُضُوعًا وَذُلًّا، وَافْتِقَارًا وَانْكِسَارًا، وَبِهِ اسْتِعَانَةً وَإِلَيْهِ إِنَابَةً، وَعَلَيْهِ تَوَكُّلًا، وَفِيهِ رَغْبَةً، وَمِنْهُ رَهْبَةً، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُعِيذُهُمْ مِنْ بَأْسِهِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يُنْجِيهِمْ مِنْ سَخَطِهِمْ إِلَّا مَرْضَاتُهُ، فَالْفَضْلُ بِيَدِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا.
وَهَذِهِ قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِ حِكْمَتِهِ الْمُحِيطَةِ بِخَلْقِهِ، وَالْبَصِيرُ يُطَالِعُ بِبَصِيرَتِهِ مَا وَرَاءَهُ، فَيُطْلِعُهُ عَلَى عَجَائِبَ مِنْ حِكْمَتِهِ، لَا تَبْلُغُهَا الْعِبَارَةُ، وَلَا تَنَالُهَا الصِّفَةُ.
وَأَمَّا حَظُّ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَخُصُّهُ مِنْ شُهُودِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ فَبِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَقُوَّةِ بَصِيرَتِهِ، وَكَمَالِ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِحُقُوقِ الْعُبُودِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شِرْبٌ مَعْلُومٌ، وَمَقَامٌ لَا يَتَعَدَّاهُ وَلَا يَتَخَطَّاهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ.